الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
والقصد هنا أن من كان عنده أن قول المعتزلة مثلًا، أو قول المعتزلة والكرامية، أو قول هؤلاء وقول الكلابية، أو قول هؤلاء وقول السالمية، هو باطل من أقوال أهل البدع، لم يبق عنده قول أهل السنة إلا القول الآخر الذي هو ـ أيضًا ـ من الأقوال المبتدعة المخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، فيفرع على ذلك القول ما يضيفه إلى السنة، ثم إذا تدبر نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، وجدها تخالف ذلك القول أصلًا وفرعًا، كما وقع لمن أنكر فضل [فاتحة الكتاب] و [آية الكرسي] و ثم إن هؤلاء تأولوا نصوص الكتاب والسنة بتأويلات باطلة، منهم من قال: المراد بكونه أعظم وأفضل وخيرًا كونه عظيما في نفسه، وامتنع هؤلاء من إجراء التفضيل عليه. وحكي هذا عن الأشعري وابن الباقلاني وجماعة غيرهما. ومعلوم أن من تدبر ألفاظ الكتاب والسنة، تبين له أنها لا تحتمل هذا المعنى، بل هو من نوع القرمطة، فإن الله/ـ تعالى ـ يقول: ومنهم من قال: بل المراد بقوله: {بِخَيْرٍ مِّنْهَا} [البقرة: 106]، أي: خير منها لكم، أي: أكثر ثوابًا أو أقل تعبًا، وقال: ما دل على أن بعضه أفضل من بعض، فليس هو تفضيـلًا لنفس الكـلام، بل لمتعلقه. وهو أن تلاوة هذا والعمل به يحصل به من الأجر أكثر مما يحصـل بالآخـر. فيقال لهـؤلاء: ما ذكرتموه حجة عليكم، مع ما فيه من مخالفة النص. وذلك أن كـون الثـواب على أحد القولين أو الفعلين أكثر منه على الثاني، إنما كان لأنه في نفسه أفضل؛ ولهذا إنما تنطق النصوص بفضل القول والعمل في نفسه، كما قد سئل النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة: أي العمل أفضل؟ فيجيب بتفضيل عمل على عمل، وذلك مستلزم لرجحان ثوابه. وأما رجحان الثواب مع تماثل العملين، فهذا مخالف للشرع والعقل. وكذلك الكلام، ففي صحيح مسلم، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، /فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن مع كونها من القرآن، ففضل نفس هذه الأقوال بعد القرآن على سواها. وكذلك في صحيح مسلم أنه سئل: أي الكلام أفضل؟ فقال: (ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده). وفي الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فأخبر أن هذا الكلام أفضل ما قاله هو والنبيون من قبله. وفي سنن ابن ماجة عنه أنه قال: (أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله)، وقد رواه ابن أبي الدنيا. وفي الصحيحين أنه قال: (الإيمان بضع وستون ـ أو وسبعون ـ شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله). ومثل هذا كثير في النصوص يفضل العمل على العمل، والقول على القول، ويعلم من ذلك فضل ثواب أحدهما على الآخر. أمـا تفضيل الثـواب بدون تفضيل نفس القول والعمل، فلم يرد به نقل ولا يقتضيه عقـل، فـإنه إذا كان القولان متماثلين من كل وجه، أو العملان متماثلين من كل وجه، كـان جعل ثـواب أحدهما أعظم مـن ثـواب الآخـر ترجيحًا لأحـد المتماثلين على الآخـر بلا مرجـح. وهـذا أصل قول القدرية والجهمية الذين يقولون: إن القادر يرجح أحد مقدوريه بـلا مرجـح، وظنـوا أنهم بهـذا الأصـل ينصرون الإسلام، فلا للإسلام/نصروا، ولا لعـدوه كسروا، بل تسلط عليهم سلف الأمـة وأئمتها بالتبديع والتضليل والتكفير والتجهيـل، وتسلط عليهم خصـومهم الدهـرية وغـيرهم بإلزامهم مخالفـة المعقـول، وجعلـوا ذلك ذريعة إلى الزيادة في مخالفة المشروع والمعقول كما جـرى للملحدين مع المبتدعين. وأيضًا، فقول القائل: إنه ليس بعض ذلك خيرًا من بعض بل بعضه أكثر ثوابًا، رد لخبر الله الصريح، فإن الله يقول: وأيضا، ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة: (لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها)، فقد صرح الرسول/ بأن الله لم ينزل لها مثلًا، فمن قال: إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثل لها من كل وجه، فقد ناقض الرسول في خبره. وأيضا، فقـد تقـدم قولـه: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]، ومع تماثـل كل حديث لله، فليس القرآن أحسن من التوراة والإنجيل. وكذلك تقدم ما خص الله به القرآن من الأحكام. فإن قيل: نحن نسلم لكم أن الله خص بعض كلامه من الثواب والأحكام بما لا يشركه فيه غيره، لكن هذا عندنا بمحض مشيئته، لا لاختصاص ذلك الكلام بوصف امتاز به عن الآخر، قيل: أولًا: هذا مخالف لصريح نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مع مخالفته الصريح المعقول، ثم هذا مبني على أصل الجهمية والقدرية، وهو أن القادر المختار يرجح أحد يتكلم ولا أن يفعل، ثم صار الكلام والفعل ممكنًا من المتماثلين على الآخر بلا مرجح. وهؤلاء لما جوزوا هذا قالوا: إن الرب لم يزل معطلًا، وما كان يمكن في الأزل أن غير حدوث شيء، اقتضى انتقالهما من الامتناع إلى الإمكان، وقالوا: إن القادر المرجح يرجح بلا مرجح. ثم قـالت الجهمية: والعبـد ليس بقادر في الحقيقـة، فـلا يرجح شيئا، بل الله هو الفاعل لفعله، وفعله هو نفس فعل الرب. وقالت/القدرية: العبد قادر تام القدرة يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا سبب حادث، ولا حاجة إلى أن يحدث اللّه ما به يختص به فعل أحدهما، بل هو ـ مع أن نسبته إلى الضدين: الإيمان والكفر سواء ـ يرجح أحدهما بلا مرجح لا من اللّه ولا من العبد، ولا يفتقر إلى إعانة اللّه ولا إلى أن يجعله شائيًا، ولا يجعله يقيم الصلاة، ولا يجعله مسلمًا. ومعلوم بالعقول خلاف هذا، واللّه ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لكن المدح في هذا الكلام معناه أنه مطلق المشيء ة لا معوق له إذا أراد شيئًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن اللّه لا مُكْرِه له). فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يفعل إلا بمشيئته، ليس له مكره حتى يقال له: افعل إن شئت، ولا يفعل إن لم يشأ. فهو ـ سبحانه ـ إذا أراد شيئًا؛ كان قادرًا عليه لا يمنعه منه مانع. لا يعني بذلك أنه يفعل لمجرد مشيء ة ليس معها حكمة، بل يفعل عندهم ما وجود فعله وعدمه بالنسبة إليه سواء من كل وجه، فإن هذا ليس بمدح، بل المعقول من هذا أنه صفة ذم، فمن فعل لمجرد إرادته الفعل من غير حكمة لفعله ولا تضمن غاية مجردة كان ألا يفعل خيرًا له. وقد ذم اللّه ـ سبحانه ـ في كتابه من نسبه إلى هذا فقال تعالى: / [المؤمنون: 115، 116]، قال المفسرون: العبث: أن يعمل عملًا لا لحكمة، وهو جنس من اللعب. وقال: [الحجر 85،86]. وقد بين ـ سبحانه ـ الفرق بين ما أمر به وما نهى عنه، وبين مــن يحمــده ويكرمــه من أوليائه، ومن يذمه ويعاقبه من أعدائه، وأنهم مختلفـون لا يجوز التسوية بينهما، وجعل خلاف ذلك من المنكر الذي لا مساغ له، فقال تعالى: [الجاثية: 22]، فأخبر أنه خلق الخلق ليجزي كل نفس بما كسبت، وأنه لا يظلم أحدًا فينقص من حسناته شيئا، بل كما قال: وقد نزه نفسه في غير موضع من القرآن أن يظلم أحدًا من خلقه، فلا يؤتيه أجره أو يحمل عليه ذنب غيره، فقال تعالى: [هود 100،101]، وفي الحديث الصحيح الإلهي: (ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا). وما تزعمه القدرية من أن تفضيل بعض عباده على بعض بفضله وإحسانه من باب الظلم جهل منهم، وكذلك جزاؤهم بأعمالهم التي جري/ بها القدر ليس بظلــم، فـــإن الواحد من الناس إذا عاقبه غيـره بسيئاته وانتصـف للمظلـــوم من الظالم، لم يكن ذلك ظلمًا منه باتفاق العقلاء، بل ذلـك أمر محمـــود منه، ولا يقول أحد: إن الظالم معذور لأجل القدر. فرب العالمين إذا أنصف بعض عباده من بعض وأخذ للمظلومين حقهم من الظالمين، كيف يكون ذلك ظلمًا منه لأجل القدر؟ ! وكذلك الواحد من العباد إذا وضع كل شيء موضعه، فجعل الطيب مع الطيب في المكان المناسب له، وجعل الخبيث مع الخبيث في المكان المناسب له، كان ذلك عدلا منه وحكمة، فرب العالمين إذا وضع كل شيء موضعه ولم يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ولم يجعل المتقين كالفجار، ولا المسلمين كالمجرمين، والجنة طيبة لا يصلح أن يدخلها إلا طيب؛ ولهذا لا يدخلها أحد إلا بعد القصاص الذي ينظفهم من الخبث، كما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمنين إذا عبروا الجسر - وهو الصراط المنصوب على متن جهنم ـ فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هذبوا ونقوا؛ أذن لهم في دخول الجنة)، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن ما يقوله القدرية من الظلم والعدل الذي يقيسون به الرب على عباده من بدعهم التي ضلوا بها وخالفوا بها الكتاب والسنة/وإجماع سلف الأمة ـ وكذلك مـن قابلهـم ـ فنفي حكمة الرب الثابتة في خلقه وأمره وما كتبه على نفسه من الرحمة، وما حرمه على نفسه من الظلم، وما جعله للمخلوقات والمشروعات من الأسباب التي شهد بها النص مع العقل والحس، واتفق عليها سلف الأمة وأئمة الدين، كقوله تعالى: ولهذا كان الذين وافقوه على قوله من المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة يتناقضون؛ لأنهم إذا خاضوا في الشرع احتاجوا أن يسلكوا مسالك أئمة الدين في إثبات محاسن الشريعة وما فيها من الأمر بمصالح العباد، وما ينفعهم من النهي عن مفاسدهم وما يضرهم، وأن الرسول الذي بعث بها بعث رحمة، كما قال تعالى: [الأعراف: 156، 157]، فأخبر أنه يأمر بما هو معروف وينهى عما هو منكر، ويحل ما هو طيب ويحرم ما هو خبيث. ولو كان المعروف لا معنى له إلا المأمور به، والمنكر لا معنى له إلا ما حرم، لكان هذا كقول القائل: يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم، ويحل لهم ما أحل لهم ويحرم عليهم ما حرم عليهم. وهذا كلام لا فائدة فيه، فضلًا عن أن يكون فيه تفضيل له على غيره. ومعلوم أن كل من أمر بأمر يوصف بذلك، وكل نبي بعث فهذه حاله. وقد قال تعالى: وليس المراد به مجرد التِذَاذ الأكــل، فإن الإنسان قد يلتذ بما يضره من السموم وما يحميه الطبيب منــه، ولا المراد بـه التِذَاذ طائفة من الأمم كالعرب، ولا كون العرب تعودته، فـــإن مجرد كون أمـة من الأمـــم تعودت أكله وطاب لها، أو كرهته لكونه ليس في بلادهـــا لا/ يوجب أن يحـــرم اللّه على جميع المؤمنـين ما لم تعتده طباع هؤلاء، ولا أن يحــل لجميع المؤمنين ما تعودوه. كيف وقد كانت العرب قد اعتادت أكل الدم والميتة وغير ذلك وقد حرمه اللّه ـ تعالى؟ ! وقد قـيــل لبعض العــــرب: ما تأكلون؟ قال: ما دب ودرج، إلا أم حبين. فقال: ليهن أم حبين العافيـــة. ونفس قـــريش كانــــوا يأكلون خبائث حرمها اللّه، وكانوا يُعَافُون مطاعــــم لم يحرمها اللّه. وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم له لحــم ضَبٍّ فرفـــع يده ولم يأكــل، فقيل: أحرام هو يارسول اللّه؟ قال: (لا، ولكنــه لم يكن بأرض قومـــي فأجدني أعافه). فعلــــم أن كراهة قريش وغيرها لطعام من الأطعمة لا يكون موجبًا لتحريمه على المؤمنين من سائر العرب والعجم. وأيضًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يحـرم أحد منهم ما كرهته العرب، ولم يبح كل ما أكلتـــه العرب، وقولــه تعالى: فالطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة للعقول والأخلاق، كمــا أن الخمـــر أم الخبائث؛ لأنها تفســد العقول والأخلاق، فأباح اللّه للمتقين الطيبات التي يستعينـــون بها على عبـــادة ربهم التي خلقوا لها، وحرم عليهـــم الخبائث التي تضــرهم في المقصــود الــذي خلقوا له، وأمرهم مع أكلهــا بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر اللّه به واستحق العقوبة. ومن حرمها ـ كالرهبان ـ فقد تعدى حدود اللّه فاستحق العقوبة، قال تعالى: [المائدة: 87]، فنهاهم عن تحريم الطيبات. كما كان طائفة من الصحابة قد عزموا على الترهب، فأنزل اللّه هذه الآية. وفي الصحيحين أن رجالًا من الصحابة قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر. وقال آخر: أما أنا فأقوم لا أنام. وقال آخر: أما أنا فلا أقرب النساء. وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا. . لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني). ولبسط هذه الأمور موضع آخر. والمقصود هنا أن اللّه بين في كتابه وعلى لسان رسوله حكمته في خلقه وأمره كقوله: [الإسراء: 32]، فعلل التحريم بأنها فاحشة بدون النهي، وأن ذلك علة للنهي عنها، وقوله: /وقد تدبرت عامة ما رأيته من كلام السلف ـ مع كثرة البحث عنه، وكثرة ما رأيته من ذلك ـ هل كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أو أحد منهم على ما ذكرته مـن هـذه الأقوال التي وجدتها في كتب أهل الكلام ـ من الجهمية والقدرية ومن تلقى ذلك عنهم ـ مثل دعوى الجهمية أن الأمور المتماثلة يأمر اللّه بأحدها وينهى عن الآخر لا لسبب ولا لحكمة، أو أن الأقوال المتماثلة والأعمال المتماثلة من كل وجه يجعل اللّه ثواب بعضها أكثر من الآخر بلا سبب ولا حكمة، ونحو ذلك مما يقولونه، كقولهم: إن كلام اللّه كله متماثل، وإن كان الأجر في بعضه أعظم، فما وجدت في كلام السلف ما يوافق ذلك، بل يصرحون بالحكم والأسباب، وبيان ما في المأمور به من الصفات الحسنة المناسبة للأمر به، وما في المنهي عنه من الصفات السيئة المناسبة للنهي عنه، ومن تفضيل بعض الأقوال والأعمال في نفسها على بعض، ولم أر عن أحد منهم قط أنه خالف النصوص الدالة على ذلك، ولا استشكل ذلك، ولا تأوله على مفهومه، مع أنه يوجد عنهم في كثير من الآيات والأحاديث استشكال واشتباه، وتفسيرها على أقوال مختلفة قد يكون بعضها خطأ. والصواب هو القول الآخر، وما وجدتهم في مثل قوله تعالى: والنبي صلى الله عليه وسلم سأل أبيًا: (أي آية في كتاب اللّه أعظم؟) فأجابه أبي بأنها آية الكرسي، فضرب بيده في صدره وقال: (ليَهَنك العلم أبا المنذر). ولم يستشكل أُبي ولا غيره السؤال عن كون بعض القرآن أعظم من بعض، بل شهد النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم لمن عرف فضل بعضه على بعض وعرف أفضل الآيات، وكذلك قوله تعالى: وما رأيتهم تنازعوا في تفسير {بِخَيْرٍ مِّنْهَا}، فإن هذه الآية فيها قراءتان مشهورتان: قراءة الأكثرين: {أَوْ نُنسِهَا} من أنساه ينسيه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: [أو ننسأها] بالهمز من نسأه ينسأه. فالأول من النسيان، والثاني من نسأ إذا أخر. قال أهل اللغة: نَسَأْتُةُ نَسأ: إذا أَخَّرْتُهُ. وكذلك أنسأته، يقال: نسأته البيع وأنسأته. قال الأصمعي: أنسأ اللّه في أجله ونسأ في أجله بمعنى. ومن هذه المادة بيع النسيئة. ومن كلام العرب: من أراد النَّسَاء ولا نَسَاء، فليبكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقلل من غشيان النِّساء. فأما القراءة الأولى فمعناها ظاهر عند أكثر المفسرين، قالوا: المراد به ما أنساه اللّه من القرآن كما جاءت الآثار بذلك، فإن ما يرفع/من القرآن إما أن يكون رفعًا شرعيًا بإزالته من القلوب وهو الإنساء، فأخبر ـ تعالى ـ أن ما ينسخه أو ينسيه، فإنه يأتي بخير منه أو مثله، بين ذلك فضله ورحمته لعباده المؤمنين، فإنه قال قبل ذلك: [البقرة: 104، 105]، فنهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في سوء أدبهم على الرسول وعلى ما جاء به، وأخبر أنهم لحسدهم ما يودون أن اللّه ينزل عليه شيئا من الكتاب والحكمة، ثم أخبر بنعمته على المؤمنين، فإنه قد كان بعض القرآن ينسخ وبعضه ينسى ـ كما جاءت الآثار بذلك ـ وما أنساه ـ سبحانه ـ هو مما نسخ حكمه وتلاوته، بخلاف المنسوخ الذي يتلى وقد نسخ ما نسخ من حكمه أو نسخ تلاوته ولم ينس، وفي النسخ والإنساء نقص ما أنزله على عباده. فبين ـ سبحانه ـ أنه لا نقص في ذلك، بل كل ما نسخ أو ينسى فإن اللّه يأتي بخير منه أو مثله، فلا يزال المؤمنون في نعمة من اللّه لا تنقص بل تزيد، فإنه إذا أتي بخير منها زادت النعمة، وإن أتي بمثلها، كانت النعمة باقية، وقال تعالى: {أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106]، فأضاف الإنساء إليه، فإن هذا الإنساء ليس مذمومًا، بخلاف نسيان ما يجب حفظه، فإنه مذموم/ فإن هذا إنساء لما رفعه اللّه، وأما نسيان ما أمر بحفظه فمذموم، قال تعالى: [طه: 162]، وهذا النسيان وإن كان متضمنًا لترك العمل بها مع حفظها فإذا نسيت الآيات بالكلية حتى لا يعرف ما فيها، كان ذلك أبلغ في ترك العمل بها فكان هذا مذموما. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن: (من قرأ القرآن ثم نسيه، لقي اللّه وهو أجذم)، ولهذا كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يضيف الإنسان النسيان إلى نفسه، فقال في الحديث المتفق عليه: (بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو أنسي. استذكروا القرآن فلهو أشد تفلتًا من صدور الرجال من النعم من عقلها). ثم منهم من جعل وقد جاءت الآثار بأن أحدهم كان يحفظ قرآنًا ثم ينساه، ويذكرون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: [إنه رفع]، مثل ما صح من حديث الزهري، حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف ـ في مجلس سعيد بن المسيب ـ أن رجلًا كان معه سورة فقام يقرأها من الليل فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ذهبت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها. وقال الآخر: ما جئت إلا لذلك. وقال الآخر: ما جئت إلا لذلك، وقال الآخر: وأنا يا رسول اللّه. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إنها نسخت البارحة). وقوله: [أو ننسأها] النسأ بمعنى التأخير، وفيه قولان للسلف: القول الأول يروى عن طائفة، قال السدي: إني علي عقبة أقضيهــــا ** لســت بناسـيها ولا منسيها أي: ولا آمر بتركها. والقول الثالث: نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها. والصواب القول الأوسط، روى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس قال: خطبنا عمر ـ رضي اللّه عنه ـ فقال: يقول اللّه: [ما ننسخ من آية أو ننسأها]، أي: نؤخرها. وبإسناده المعروف عن أبي العالية وهذا فيه نظر؛ فإن ابن أبي حاتم روى بالإسناد الثابت عن عطاء والصواب: قول من فسر [أو ننسأها]، أي: نؤخرها عندنا فلا ننزلها. والمعنى: أن ما ننسخه من الآيات التي أنزلناها. أو نؤخر نزوله من الآيات التي لم ننزلها بعد وكذلك إن قدر أن المراد يؤخر نسخه إلى وقت ثم ينسخه، فإنه ما دام عندهم لم يحتج إلى بدل يكون مثله أو خيرًا منه، وإنما البدل لما ليس عندهم مما أنسوه أو أخر نزوله فلم ينزله بعـد؛ ولهـذا لم يجعـل البدل لكل ما لم ينزله، بل لما نسأه فأخر نزوله؛ إذ لو كان كل مـا لم ينزل يكـون له بدل، لزم إنزال ما لا نهاية له، بل ما كان يعلم أنه سينزله وقد أخـر نزوله يكونون فاقديـه إلى حين ينزل، كما يفقـدون مـا نزل ثم نسـخ، فيجعـل ـ سبحانه ـ لهذا بدلًا ولهذا بدلًا. وأما ما أنزله وأقره عندهم وأخر نسخه إلى وقت، فهذا لا يحتاج إلى بـدل، فإنه نفسـه بـاق، ولو كـان هـذا مـرادًا؛ لكان كل قرآن قد نسخه يجب أن ينزل قبل نسخه ما هو مثله أو خير منه، ثم إذا نسخه يأتي بخير منه أو مثله، فيكون لكل منسوخ بدلان: بدل قبل نسخه، وبدل بعد نسخه. والبدل الذي قبل نسخه لا ابتداء لنزوله، فيجب أن ينزل من أول الأمر، فيلزم نزول ذلك كله في أول الوحي، وهذا باطل قطعًا. /فـإن قيل: فهـذا يلزم فيما أخره فلم ينزله، فإن له بدلًا ولا وقت لنزول ذلك البدل، قيـل: مـا أخـر نزوله وهـو يريد إنزاله معلوم، والبدل الذي هو مثله أو خير منه يؤتى به في كـل وقت، فـإن القرآن ما زال ينزل، وقد تضمن هذا أن كل ما أخر نزوله فلابد أن ينزل قبله ما هو مثله أو خير منه، وهذا هو الواقع، فإن الذي تقدم من القرآن نزوله لم ينسخ كثير منه خير مما تأخر نزوله، كالآيات المكية، فإن فيها من بيان التوحيد والنبوة والمعاد وأصول الشرائع ما هو أفضل من تفاصيل الشرائع، كمسائل الربا، والنكاح، والطلاق، وغير ذلك. فهذا الذي أخره اللّه مثل آية الربا فإنها من أواخر ما نزل من القرآن، وقد روي أنها آخر ما نزل، وكذلك آية الدَّينِ والعِدَّةِ والحيض ونحو ذلك، قد أنزل اللّه قبله ما هو خير منه من الآيات التي فيها من الشرائع ما هو أهم من هذا، وفيها من الأصول ما هو أهم من هذا. ولهذا كانت سورة الأنعام أفضل من غيرها، وكذلك سورة يس ونحوها من السور التي فيها أصول الدين التي اتفق عليها الرسل كلهم - صلوات اللّه عليهم - ولهذا كانت ـ مع قلة حروفها ـ تعدل ثلث القرآن؛ لأن فيها التوحيد، فعلم أن آيات التوحيد أفضل من غيرها، وفاتحة الكتاب نزلت بمكة بلا ريب، كما دل عليه قوله/ تعالى: مكية بلا ريب، وهو قول الجمهور. وقد قيل: إنها مدنية، وهو غلط ظاهر. وكذلك قول من قال: الفاتحة لم تنزل إلا بالمدينة غلط بلا ريب. ولو لم تكن معنا أدلة صحيحة تدلنا على ذلك لكان من قال: إنها مكية معه زيادة علم. وسورة ، أكثرهم على أنها مكية. وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة، ولا منافاة، فإن اللّه أنزلها بمكة أولًا، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخري. وهذا مما ذكره طائفة من العلماء وقالوا: إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك. فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقًا. والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها، نزل جبريل فقرأها عليه ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك. /والواحد منا قد يسأل عن مسألة فيذكر له الآية أو الحديث، ليبين له دلالة النص على تلك المسألة وهو حافظ لذلك، لكن يتلى عليه ذلك النص ليتبين وجه دلالته على المطلوب. فقد تبين أن البدل لما أخر نزوله بخلاف ما كان عندهم لم ينسخ، فإن هذا لا بدل له، ولو قدر أنه سينسخ فإنه ما دام محكما، لم يكن بدله خيرًا منه. وكذلك البدل عن المنسوخ يكون خيرًا منه. وأكثر السلف أطلقوا لفظ {بِخَيْرٍ مِّنْهَا} [البقرة: 106] كما في القرآن، ولم يستشكل ذلك أحد منهم. وفي تفسير الوالبي: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وعن قتادة: فإن قيل: فآية الكرسي قد ثبت أنها أعظم آية في كتاب اللّه، وإنما نزلت في ســورة البقرة ـ وهي مدنية بالاتفاق ـ فقد أخر نزولها ولم ينزل قبلها ما هو خير منها ولا مثلها؟ قيل: عن هذا أجوبة: /أحدها: أن اللّه قال: ففي الجملة، نزول أول الحديد وآخر الحشر قبل آية الكرسي ممكن، والأنعام ويس وغيرها نزل قبل آية الكرسي بالاتفاق. الجواب الثاني: أنه ـ تعالى ـ إنما وعد أنه إذا نسخ آية أو نسأها، أتي/بخير منها أو مثلها لما أنزل هذه الآية قوله: يدل على ذلك قوله: {مَا نَنسَخْ}، فإن هذا الفعل المضارع المجزوم إنما يتناول المستقبل، وجوازم الفعل [إنْ] وأخواتها ونواصبه تخلصه للاستقبال. وقد يجاب بجواب ثالث: وهو أن يقال: ما نزل في وقته كان خيرًا لهم وإن كان غيره خيرًا لهم في وقت آخر، وحينئذ فيكون فضل بعضه على بعض على وجهين: لازم كفضل آية الكرسي وفاتحة الكتاب و وفضل عارض بحيث تكون هذه أفضل في وقت وهذه أفضل في وقت آخر، كما قد يقال في آية التخيير للمقيم بين الصوم والفطر مع الفدية ومع آية إيجاب الصوم عزما، وهذا كما أن/الأفعال المأمور بها كل منها في وقته أفضل، فالصلاة إلى القدس قبل النسخ كانت أفضل، وبعد النسخ الصلاة إلى الكعبة أفضل. وعلى ما ذكر فيتوجه الاحتجاج بهذه الآية على أنه لا ينسخ القرآن إلا قرآن كما هو مذهب الشافعي، وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد، بل هي المنصوصة عنه صريحًا ألا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، وعليها عامة أصحابه؛ وذلك لأن اللّه قد وعد أنه لابد للمنسوخ من بدل مماثل أو خير، ووعد بأن ما أنساه المؤمنين فهو كذلك، وأن ما أخره فلم يأت وقت نزوله فهو كذلك، وهذا كله يدل على أنه لا يزال عند المؤمن القرآن الذي رفع، أو آخر مثله، أو خير منه، ولو نسخ بالسنة، فإن لم يأت قرآن مثله أو خير منه، فهو خلاف ما وعد اللّه. وإن قيل: بل يأتي بعد نسخه بالسنة كان بين نسخه وبين الإتيان بالبدل مدة خالية عن ذلك وهو خلاف مقصود الآية، فإن مقصودها أنه لابد من المرفوع أو مثله أو خير منه. وأيضًا، فقوله: {نَأْتِ} [البقرة: 106] لم يرد به بعد مدة، فإن الذي نسأه وهو يريد إنزاله قد علم أنه ينزله بعد مدة، فلما أخبر أن ما أخره يأتي بمثله أو خير منه قبل نزوله، علم أنه لا يؤخر الأمر بلا بدل، فلو جاز أن يبقى مدة بلا بدل، لكان ما لم ينزل أحق بألا يكون له بدل من المنسوخ، فلما كان ذاك قد حصل له بدل قبل وقت نزوله لتكميل الأنعام، فلأن يكون البدل لما نسخ من /حين نسخ بَعْدُ أولى وأحرى؛ ولأنه قد علم أن القرآن نزل شيئا بعد شيء، فلو كان ما ينزله بدلًا عن المنسوخ يؤخره لم يعرف أنه بدل، ولم يتميز البدل من غيره، ولم يكن لقوله: غاية ما يقال: إنه لو لم ينسخ شيء، لجاز ألا ينزل بعد ذلك شيء، وإذا نسخ شيء، فلابد من بدله ولو بعد حين. وهذا مما يعتقدونه، فإنهم قد اعتادوا نزول القرآن عند الحوادث والمسائل والحاجة، فما كانوا يظنونه ـ إذا نسخت آية ـ ألا ينزل بعدها شيء، فإنها لو لم تنسخ، لم يظنوا ذلك، فكيف يظنون إذا نسخت؟ ! الثاني: أنه إذا كان قد ضمن لهم الإتيان بالبدل عن المنسوخ، علم أن مقصوده أنه لا ينقصهم شيء مما أنزله، بل لابد من مثل المرفوع أو خير منه، ولو بقوا مدة بلا بدل لنقصوا. وأيضًا، فإن هذا وعد معلق بشرط، والوعد المعلق بشرط يلزم عقبه، فإنه من جنس المعاوضة وذلك مما يلزم فيه أداء العوض على الفور إذا قبض المعوض، كما إذا قال: ما ألقيت من متاعك في البحر فعلى بدله، وليس هذا وعدًا مطلقًا كقوله: /ومما يدل على المسألة أن الصحابة والتابعين الذين أخذ عنهم علم الناسخ والمنسوخ إنما يذكرون نسخ القرآن بقرآن، لا يذكرون نسخه بلا قرآن بل بسنة، وهذه كتب الناسخ والمنسوخ المأخوذة عنهم إنما تتضمن هذا. وكذلك قول على ـ رضي الله عنه ـ للقاص: هل تعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن؟ فلو كان ناسخ القرآن غير القرآن، لوجب أن يذكر ذلك أيضًا. وأيضًا الذين جوزوا نسخ القرآن بلا قرآن من أهل الكلام والرأي، إنما عمدتهم أنه ليس في العقل ما يحيل ذلك، وعدم المانع الذي يعلم بالعقل لا يقتضي الجواز الشرعي، فإن الشرع قد يعلم بخبره ما لا علم للعقل به، وقد يعلم من حكمة الشارع التي علمت بالشرع ما لا يعلم بمجرد العقل؛ ولهذا كان الذين جوزوا ذلك عقلًا مختلفين في وقوعه شرعًا، وإذا كان كذلك، فهذا الخبر الذي في الآية دليل على امتناعها شرعًا. وأيضًا، فإن الناسخ مهيمن على المنسوخ، قاض عليه، مقدم عليه، فينبغي أن يكون مثله أو خيرًا منه كما أخبر بذلك القرآن؛ ولهذا لما كان القرآن مهيمنًا على ما بين يديه من الكتاب بتصديق ما فيه من حق، وإقرار ما أقره، ونسخ ما نسخه، كان أفضل منه، فلو كانت السنة ناسخة للكتاب، لزم أن تكون مثله أو أفضل منه. /وأيضًا، فلا يعرف في شيء من آيات القرآن أنه نسخه إلا قرآن، والوصية للوالدين والأقربين منسوخة بآية المواريث، كما اتفق على ذلك السلف، قال تعالي:
|